هذه رسالة لطيفة في النصح للموظفين والعمَّال في أداء ما أنيط بهم من أعمال، نسوقها أملين في أن يستفيدوا منها، وأن تكون عوناً لهم على الإخلاص في نيَّاتهم والجدِّ في أعمالهم والقيام بواجباتهم .
يقول عزَّ وجلَّ في حفظ الأمانة وترك الخيانة:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}
وفي حديث الحسن عن سمرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك"رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وهو يَعمُّ جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عزَّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مِمَّا هو مؤتَمَن عليه لا يطَّلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مِمَّا يأتَمنون به من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله عزَّ وجلَّ بأدائها، فمَن لَم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة"
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}قال ابن كثير:"والخيانة تعمُّ الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدِّية"،
ومن الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفظ الأمانة والتحذير من إضاعتها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّث القوم، جاءه أعرابيٌّ فقال:متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث، فقال بعضُ القوم:سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضُهم:بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال:أين أراه السائل عن الساعة؟ قال:ها أنا يا رسول الله، قال:فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال:كيف إضاعتُها؟ قال:إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة"رواه البخاري
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"آية المنافق ثلاث:إذا حدَّث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان"رواه البخاري
فالموظف الذي يقوم بأداء عمله بجدٍّ يرجو ثواب الله أبرأ ذمَّته واستحقَّ الأجرة على العمل في الدنيا، وظفر بالثواب في الدار الآخرة، وقد وردت النصوص الشرعية دالَّة على أنَّ الأجر والثواب على ما يعمله الإنسانُ من أعمال، يكون مع الاحتساب وابتغاء وجه الله
وروى البخاري ومسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبُها فهو له صدقة"وقال صلى الله عليه وسلم : لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "ولستَ تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله، إلاَّ أُجرتَ بها، حتى اللقمة تجعلُها في فِي امرأتِك"رواه البخاري ومسلم ، فدلَّت هذه النصوص على أنَّ المسلمَ إذا أدَّى ما هو واجب عليه للعباد برئت ذمَّتُه، وأنَّه إنَّما يحصل الأجر والثواب بالاحتساب وابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
حفظ الوقت المخصَّص للعمل لصالح العمل
يجب على كلِّ موظف وعامل أن يشغلَ الوقت المخصَّص للعمل في العمل الذي خُصِّص له، فلا يشتغل فيه في أمور أخرى غير العمل الذي يجب أداؤه فيه، ولا يشغل الوقت أو شيئاً منه في مصلحته الخاصة، ولا في مصلحة غيره إذا كانت لا علاقة لها بالعمل؛ لأنَّ وقتَ العمل ليس مِلكاً للموظف والعامل، بل لصالح العمل الذي أُخذ الأجر في مقابله، وكما أنَّ الإنسان يرغب في أخذ أجره كاملاً ولا يحبُّ أن يُبخسَ منه شيء، فعليه أن لا يبخسَ شيئاً من وقت العمل يصرفه في غير صالح العمل، وقد ذمَّ الله المطفِّفين في المكاييل والموازين الذين يستوفون حقوقهم ويبخسون حقوق غيرهم، فقال:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون َوَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
كبار المسؤولين قدوة في الجِدِّ أو الكسل لصغارهم
إذا قام كبار الموظفين بواجباتهم على التمام والكمال، اقتدى بهم في ذلك الموظفون التابعون لهم، وكلُّ رئيس في العمل سيُسأل عن نفسه ومرؤوسيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم "كلُّكم راع ومسؤول عن رعيَّته، فالأمير الذي على الناس فهو راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجلُ راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبدُ راع على مال سيِّده وهو مسؤول عنه، ألاَ فكلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيته"رواه البخاري ومسلم
وإذا حافظ المسؤولون الكبار على الأعمال في جميع أوقاتها صاروا قدوةً حسنة لِمَن دونهم، يقول الشاعر : وإنَّك إذ مَا تَأتِ ما أنتَ آمِرٌ به تُلْفِ مَن إيَّاه تأمُرُ آتِيَا
المعنى:إذا أمرت غيرَك مِمَّن هو دونك بأن يقوم بواجبه وكنتَ سابقاً إلى قيامك بالواجب، فإنَّ غيرَك يستجيب لك ويقوم بما أمرتَه به.
معاملة الموظف غيره بمثل ما يحب أن يُعامَل به
النصيحة شأنها في الإسلام عظيم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم "الدِّين النصيحة، قالوا:لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"رواه مسلم
وكما أنَّ كلَّ موظف أو عامل إذا كانت له حاجة عند غيره يحب أن يعامله غيرُه معاملة حسنة، فإنَّ عليه أن يُعامل غيرَه معاملة حسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"فمَن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنَّة فلتأته منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه"رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه"رواه البخاري ومسلم.
تقديم الموظف الأسبق فالأسبق من أصحاب الحاجات
من العدل والإنصاف ألاَّ يؤخِّر الموظفُ متقدِّماً من أصحاب الحاجات، أو يقدم متأخِّراً، بل يكون التقديم عنده على حسب السبق، وفي ذلك راحة للموظف وأصحاب الحاجات، وقد جاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّث القوم، جاءه أعرابيٌّ فقال:متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث، فقال بعضُ القوم:سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضُهم:بل لَم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال:أين أراه السائل عن الساعة؟ قال:ها أنا يا رسول الله، قال:فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال:كيف إضاعتُها؟ قال:إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة"رواه البخاري
ووجه الدلالة من الحديث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لَم يُجب السائل عن الساعة إلاَّ بعد فراغه من تحديث مَن سبقوه، قال الحافظ ابن حجر في شرحه:"ويؤخذ منه أخذ الدروس على السبق، وكذلك الفتاوى والحكومات ونحوها".
اتصاف الموظف بالعفَّة والسلامة من أخذ الرشوة والهدية
يجب على كلِّ موظف أن يكون عفيفاً عزيزَ النفس غنيَّ القلب بعيداً عن أكل أموال الناس بالباطل، مِمَّا يُقدَّم له من رشوة ولو سمي هدية؛ لأنَّه إذا أخذ أموال الناس بغير حقٍّ أكلها بالباطل، وأكل الأموال بالباطل من أسباب عدم قبول الدعاء، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيُّها الناس!إنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلاَّ طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكَرَ الرجلَ يُطيل السفر أشعث أغبر، يَمدُّ يديه إلى السماء:يا ربِّ!يا ربِّ!" ومطعمُه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!"
وقد ورد في سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث تدلُّ على منع العمَّال والموظفين من أخذ شيء من المال ولو سُمِّي هدية، منها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال:"استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد، يُقال له:ابن اللتبيَّة على الصدقة، فلمَّا قدم قال:هذا لكم، وهذا لي أُهدي لي، قال:فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:ما بال عامل أبعثه فيقول:هذا لكم، وهذا أُهدِيَ لي؟!أفلاَ قعدَ في بيت أبيه أو في بيت أمِّه حتى ينظرَ أيُهدَى إليه أم لا؟!والذي نفسُ محمد بيده!لا ينال أحدٌ منكم منها شيئاً إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على عُنُقه، بعير له رُغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعَر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتَي إبطيه، ثم قال:اللَّهمَّ هل بلَّغت؟ مرَّتين"رواه البخاري ومسلم،