15 يوماً تُشبه “الحلم”
طبيبة الأطفال “أبو عاصي” تروي تجربتها في هزيمة “كورونا”
دقائق وسيارتي الاسعاف والشرطة ستحضران لاصطحابك لمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني لقضاء فترة الحجر الصحي”، لترد رئيس قسم عنايه الاطفال بمستشفي النصر الطبيبة رضا أبو عاصى قائلة: لا أريد أن تحضروا سيارة شرطة فأطفالي صغار ، أخاف أن يتسبب لهم ذلك بأذى نفسي” هذا الحوار الذي دار بينها و بين المتصل الذي أخبرها بايجابية نتيجتها بفيروس” كورونا”.
فيوم الجمعة الساعة الثانية بعد الظهر، دق جرس هاتفها النقال ودقت نبضات قلبها خوفا وتوتر من أن المتصل يحمل خبرا لا يسرها، ترددت للحظات قبل أن تجيب ، لكن اصرار المتصل دفعها لفتح الخط ، فعلى الجانب الآخر موظف وزارة الداخلية يتصل ليخبرها بأن نتيجتها أتت ايجابية .
أسئلة وهواجس كثيرة زاحمتها بالبداية حول مصيرها، تخفي عن أطفالها الخائفين تلك المعارك بداخلها، مع اصرارها على عدم حضور سيارة شرطة والاكتفاء بنقلها بسيارة اسعاف حرصا على مشاعر أطفالها.
الطبيبة أبو عاصى التي أصيبت بفيروس كورونا خلال عملها في مستشفى النصر للأطفال تركت أبنائها الصغار قسرا، وأصبح للأب مسؤولية تولى شؤون المنزل وتلبية طلباتهم، تائها ببحر غيابها الذي سيطول ، واللحظات الأليمة التي ستمر عليه حين سؤالهم المتكرر عن يوم عودتها.
فكل يوم تختفي فيه أشعة الشمس تقفز نورين ( 7أعوام) نحو ورقة كتبت عليها أيام غياب والدتها الأربعة عشر، تمحو يوم ثم يوم ويوم آخر ، ولمار ( 14عاما) التي تخطط مع اختها ملك (12عاما) عن الطريقة التي سيستقبلون فيها والدتهم، أما الصغير محمد ( 5أعوام) فذهب يراقبهم دون أن يدرك ما يحيط به ، وعلى الجانب الآخر تجلس الطبية على سريرها تحصي انتهاء الأيام كما أطفالها .
و مجرد أن تحاور شخصا مصابا بفيروس كورونا المستجد قد تتخيل أن تجد شخصا منهزما، وتسمع قصة مواجهة من على فراش السرير، وأطباء يصولون ويجولون وأجهزة تنفس طبية، ومرض نال من أعضاء الجسد، لكن في معركة رئيس قسم عناية الأطفال بمستشفى النصر للأطفال الطبيبة أبو عاصي مع المرض اختلفت الأمور قليلا.
#بداية_الاصابة
“أتدرون؛ تفاصيل معايشة الفيروس غريبة ” تبدأ الطبية أبو عاصي حديثها مع صحيفة لـ”الاستقلال”، من لحظة ما قبل اكتشاف اصاباتها بالفيروس ووصوله خارج مراكز الحجر، قائلا: ” في غمرة عملي في قسم الأطفال بمستشفى النصر ، كنت حريصة على الالتزام بإجراءات الوقائية، أرتدي الكمامة والقفازات حين مخالطتي للمرضى بقسم العناية، أما قسم المبيت فالتزامي قليل كون الحالات مستقرة ولم يظهر على احداها أي اعراض اصابة بفيروس كورونا”.
لم يدر في خلد الطبية حينها أنه من الممكن أن تكون احدى المرافقات بقسم المبيت مصابة بفيروس كورونا ، كون الأخبار المتداولة من وزارتي الصحة والداخلية تأكد بأن الأمور تحت السيطرة ، وأن جميع الحالات داخل الحجر ، ولا وجود لمرضى خارجها.
في صبيحة يوم الاثنين 24/8 الذي صادف اكتشاف حالات مصابة بفيروس كورنا خارج مراكز الحجر الصحي بقطاع غزة، شعرت الطبية بألم بالحلق وصداع مستمرة، تواصلت الأعراض معها يوم ثم آخر ، وهي تعيش على طبيعتها متنقلة ما بين المنزل والمستشفى، دون أن تدري أنها أعراض الاصابة بفيروس كورونا.
في اليوم الرابع اختفت الأعراض كليا على الطبيبة، لكن كان من المقرر أن يجري جميع الطاقم الطبي بالمستشفى باليوم ذاته الخميس ، مسحات للتأكد من سلامتهم من الاصابة بفيروس كورونا، ساعات طويلة مرت عليها وعلى زملائها فالجميع ينتظر النتائج والخوف والتوتر يتملكهم من أن تأتي النتائج عكس ما يتمنون .
ويشهد قطاع غزة منذ مساء يوم الاثنين24/8 حالة طوارئ قصوى بعد اكتشاف عدة حالات مصابة بفيروس كورونا من غير المحجورين في مراكز الحجر الصحي، وبناء عليه أعلنت وزارة الداخلية فرض حظر تجول شامل في القطاع لمدة 48 ساعة، ثم قررت بعد انتهاء المدة تمديد الحظر 72 ساعة إضافية بناء على توصيات وزارة الصحة، ثم عملت على تجديده مرات أخرى وفصل المناطق عن بعضها البعض.
أشبه_بسجن
في ثنايا إحدى غرف مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني تغرق الطبية أبو عاصي بين الحزن والخوف والتوتر، وفكرة غيابها مدة أسبوعين عن صغارها الأربعة وزوجها ومنزلها الكبير، لكن بعد أيام ثقيلة مرت عليها بدأت تتقبل الأمر على مضض .
وتقول : ” صعب إنك تتواجد في العزل، بعيدا عن العالم، ما بتقدر تشوف أطفالك وعائلتك، تتواجد في عزل أشبه بالسجن، محاصر بالكمامات والقفازات والأدوية والمعقمات، ووجبات طعام تتناولها لحالك دون شركاء ” .
وتضيف : ” منذ الأيام الأولى حتى مرور الأسبوع الأول ما غادرت غرفتي بالحجر، حتى ما كنت أخالط ولا أحكي ولا أتعامل مع حد، بحذر شديد كنت أسلتم طعامي وسرعان ما أتوجه للغرفة من جديد، لكن بعديها بدأ الزملاء حين الاجتماع بالمرر وقت استلام الطعام حديثهم بالسؤال والاطمئنان على حالتي واذا كنت بحاجة لشيء لتلبيته على الفور، ما كسر حاجز خوفي قليلا وبدأت أختلط مع الجميع بحذر”.
و تتابع : “الهاتف و المسنجر والواتس أب جميع تلك الوسائل قربت المسافات بيني وبين صغاري وزوجي و أفراد عائلتي ، كما سجادة صلاتي ودعواتي لله بأن يخفف محنتي جميعها كان لها أثر طيب بالتخفيف عني ولو قليلا “.
#يوم_عودتها
“ست الحبايب يا حبيبة، يا أغلى من روحي ودمي ، يا حنينة وكلك طيبة يا ربي يخليكي يا أمي” على وقع هذه الكلمات، و وقع نبضات قلوبهم التي امتلئت فرحا، استقبلوا الأطفال والدتهم الطبيبة ، بعد غياب دام أسبوعين بالحجر.
لمار التي خططت لحفل استقبال والدتها والتفكير مطولا بالحضن الدافئ التي ستحظى به هي واخوتها الصغار، اصطدمت بتشديد الاجراءات الوقائية ، ومنع الاقتراب منها أسبوع آخر، حرصا من عدم عودة الأعراض لها واصابة أحدهم بالمرض.
وتوضح الطبية أبو عاصي أن أصعب شيء يمر على أي أم أن تحرم من العيش بسلام واستقرار نفسي بكنف عائلتها وبين أطفالها، وأن تكون الكمامة والقفازات والتباعد الاجتماعي الحل الوحيد للعيش معا في بيت واحد.
وتبين أن الالم النفسي الذي ألم بها على إثر التجربة التي مرت بها، لم تمحوه الأيام ولا السنين طيلة حياتها، مشيرة إلى الذكريات الأليمة التي عاشتها بعيدة عن أطفالها وزوجها وعائلتها، والأيام الطويلة التي مرت عليها دون أن تنعم بساعة راحة خوفا من تضاعف الأعراض عليها.
وعبرت عن مدى استغرابها من حجم التهاون والاستهتار التي شاهدته حين عودتها للمنزل بعد انتهاء فترة الحجر الصحي ، على البحر من أعداد المواطنين المصطافين والمتواجدين بالطرقات دون أدنى احساس بالمسؤولية.