الأخوة والأخوات الكرام:
لا شك أن العاقل البصير – أيا كان تخصصه أو موقـعه – يعلم بأن العمر قصير ، والأنفاس معدودة ، والموت قد يأتي بغتة ، والأطباء – بصفة خاصـة – أكـثـر الـنـاس معايشة لهذه المفاهيم؛ لأنهم يشاهدون لحظات الموت حية أمام نواظرهم.. يتابعون الاحتضار لحظة بلحظة.. كما أنهم يعايشـون أحاسيس أهل المريض عند موته ، لذا كان من الطبيعي أن يكونوا أكثر معرفة بالله وخوفـاً منه ، إن قورنوا بعامة الناس ، ولكن – للأسف الشديد – فإن القليل منهم في هذا الزمان يعي أهمية دوره كطبيب في الدعوة إلى الله.
حرص الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وبلدانهم على الجد في تحصيل علم الطب ، وبلغوا أرفع الدرجات ، ومما لا شك فيه ولا ريب أن من أعظم مقاصدهم تسخير نتيجة تحصيلهم في الدعوة إلى دينهم. واقرأ قولهم (( حيث تجد بشراً تجد آلاماً ، وحيث تكون الآلام تكون الحاجة إلى الطبيب ، وحيث تكون الحاجة إلى الطبيب فهنالك فرصة مناسبة للتبشير )).
رحم الله الإمام الشافعي على ما تحسّر عليه من كون الطب قد انتقل إلى أهل الكتاب، حيث يلوم أهل الإسلام في تفريطهم في علوم الطب، يقول: (( ضيعوا ثلث العلم ، و وَكلوه إلى اليهود والنّصارى )). ولكأنّه – رحمه الله – يشير إلى الآثار السيئة المترتّبة على استحواذ أهل الكتاب على علوم الطب، ويقول الشافعي ذلكم الكلام في عصره، حيث لا شوكة لأهل الكتاب ولا تسلّط ولا فشوا للفواحش فيما بينهم آنذاك كحالهم اليوم، فماذا عسى ذلكم الإمام أن يقول لو أدرك حال الغرب اليوم.
إذا قلنا أن المجال الطبي من أوسع مجالات الدعوة إلى الله عز وجل فهذا لا يعني أننا نريد أن يترك الطبيب مجسه ومبضعه (مشرطه) لأجل أن يتلو محاضرة !! ، لا نريد ذلك وإنما نريد منه الكلمة الحسنة والأسلوب المهذب والتنبيه إلى المخالفة وإهداء ما يستطيع من خلال عمله الطبي أو من خلال المجتمع الذي يعيش فيه. نأمل أن نرى المجال الطبي من أنشط المجالات في نشر الدعوة وحض الناس على الخير ، ولسنا نطلب أن تنقلب العيادات والمستشفيات إلى قاعات محاضرات ولا إلى منابر واعظين ،وإنما نبتغي أن يستغل العاملون في هذا المجال مواقعهم المؤثرة لأجل أن يبلغوا ما يستطيعون من الخير وأن يتخففوا قدر ما يستطيعون من المخالفة.
ومما يزيدنا يقيناً بأهميّة الدعوة في المجال الطّبي و أن المستشفيات أرض خصبة للدعوة ما للطب من علاقة جذرية بحياة الناس ، فمن من الناس لا يمرض ولا يعتل ؟ ، ومَنْ مِنَ الناس لا يعتري صحته سقم ولا نصب ؟ ، فكل الناس كذلك – إلاّ من شاء الله – لذا ترى الناس يهرعون إلى طلب الاستطباب طمعاً في الشفاء ، ويتحملون في ذلك الغالي والنفيس ، وكل ذلك يهون أمام نعمة الصحة والعافية؛ لهذا لا بد من استثمار مهنة الطب في دعوة الناس إلى الخير.
الأخوة الأفاضل .. الأخوات الفاضلات :
كلنا يعلم كيف كان حال الطبيب في تاريخنا الإسلامي، وكيف كانت مساحة المعرفة بين علمه وفنه التقني ، وبين مجالات الثقافة الواسعة والوعي الإسلامي الصحيح فالتكامل والشمول صفتان منبثقتان انبثاقاً مباشراً من الإسلام وهما ملازمتان لشخصية المسلم الصحيح فهما في الطب ألزم ، لأن مهمة الطب والطبيب هي المشاركة الفعالة في إيجاد الإنسان الصحيح ، سواء بعلاج المرض أو تفادي وقوعه ، علاجاً لا يعتمد فقط على التحديد القاصر لمفهوم الصحة والمرض في العلم المادي ، ولكن بمعناها الشامل المتكامل كما يبدو من خلال المفهوم الإسلامي . وإذا تيقن الطبيب المسلم أن “الاستواء الصحي” بمعناه الواسع الذي يستوعب حياة الإنسان بكاملها : جسماً وعقلاً وروحاً ، وخلقاً وسلوكاً ، فطرةً واكتساباً، وهو “سلامة وصحة” ذات مفهوم تعجز كل النظم الأخرى عن استيعاب جوانبه فضلا عن محاكاته وبه تصلح حياة الفرد الإنسانية ، ومن ثم حياة المجتمع البشري ؛ فإنه يستطيع أن ينشئ طباً يكون فتحاً في عالم الطب ، ونوراً يهدي إلى البشرية التي تتخبطها ظلمات الحياة رغم منجزات العلم الهائلة
فحريّ بالطبيب وطالب الطب بعد أن أدرك هذه الحقائق أن يسعى جادّاً لتطوير ذاته، و بنائها بناءً متكاملاً، لا يتعلّم الطب فقط ؛ بل أخلاقيات الطب وآداب الطبيب و ما يحتاج إليه من زادٍ شرعي كفردٍ مسْلِم. لا يلبس المعطف الأبيض فينفصل عن كل ما ليس له علاقة بالطب في نظره، بل عليه أن يكون بردائه الأبيض الطبيب والمربّي والداعية المصْلِح الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر، فالطب والدّعوة قرينان.