غزة- خاص الرأي – نور الدين عاشور:
ظن الكثير من المراقبين أنه من المستحيل أن تصمد أية منظومة صحية تعمل في واقع مليء بالصعوبات التي تجعل التعايش معها ضربا من ضروب الخيال، إلا أن وزارة الصحة الفلسطينية كسرت هذه القاعدة وجعلتها أرضية صلبة لنهضة صحية شهد لها العدو قبل الصديق.
فسطرت الوزارة خلال تلك الفترة صورًا من صور صمود الشعب الفلسطيني المشار لها بالبنان، لتؤكد من جديد أن الانجاز يأتي من المستحيل، وأن الإبداع يولد التحدي وهو ما أكده التقرير الأخير الصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية بواشنطن.
مزيد من التحدي
وتعقيبًا عليه، عدَّ وزير الصحة د. باسم نعيم أن ما جاء في التقرير المركز يمثل شهادة تضع الوزارة أمام مزيد من التحدي، لأن وزارته استطاعت أن تتجاوز الكثير من الأزمات وتتخطى كثير من العقبات وترتقي بمستوى الخدمات بالرغم من الأزمات التي مرت بها الحكومة الفلسطينية.
وقال إن “هذه الخدمات التي استطعنا أن نقدمها تتمثل في تحسن المؤشرات الصحية بشكل عام، وزيادة عدد الأسرة في المستشفيات، وإضافة خدمات جديدة، إلى جانب تقديم نموذج مميز في النزاهة والشفافية (..) والحديث يجري عن ترشيد الخدمات بما يتناسب مع الحصار المالي”.
وأضاف “هذا التقرير لا يستهدف الثناء على إدارة حكومة حماس أو أداء وزارة الصحة أو مساعدتنا على تحقيق مزيد من الإنجاز، بقدر ما يضعنا أمام تحدٍ جديد، لأن هذه الورقة موجه إلى صناع القرار في السياسات الأمريكية بهدف إعادة النظر في تقييم سياساتهم تجاه الإدارة الناجعة في القطاع”.
وبين أن أهداف التقرير تأتي في صياغة الحث على اتخاذ مزيدا من الإجراءات والعقوبات بحق القطاع، مؤكدًا أن تشديد الخناق على سكان القطاع من خلال أزمتي الكهرباء والوقود ونقص الدواء يشكل لدى وزارته دافعًا لتحقيق المزيد من الإبداع للارتقاء بمستوى طموح الشعب الفلسطيني.
وحول دوافع إصدار التقرير، بين نعيم أن الجهات التي تفرض الحصار منذ ست سنوات لديهم غرف عمليات تعمل على مدار الساعة في مراقبة الأوضاع في قطاع غزة، مؤكدا أن هذه الجهات تقوم كل فترة برفع التقارير المطلوبة إلى صناع القرار لتعيق على سير الأمور في قطاع غزة.
وقال إن “ما يجري لا يقتصر على القطاع الصحي، وإنما يشمل كافة القطاعات مثل قطاع العمران والأمن والقطاع الزراعي والتعليمي”، مشيرًا إلى أن هذا النجاح الذي حققته الحكومة لم يكن مصدر سعادة بالنسبة لهم، على اعتبار أنهم كانوا يتوقعون سقوط هذه الحومة خلال شهور قليلة.
أبرز المعيقات
وحول بدايات العمل، قال إن “الحقيقة أننا استلمنا إرثا ثقيلا من الفوضى الإدارية والفنية والتراجع الكبير في تقديم الخدمات الصحية، رغم كفة المحاولات السابقة للنهوض بالقطاع الصحي، لكن التدخلات في العمل الصحي من هنا وهناك ألقت بظلالها على العمل الصحي وبخاصة تدخلات الأجهزة الأمنية”.
وأضاف ” كل التدخلات أدت إلى تراجع الخدمة الصحية وسيطرة الفوضى الإدارية والتسيب الأخلاقي، والبداية كانت صعبة جدا بالنسبة لنا، لكن بفضل الله سبحانه وتعالى استطعنا وبفضل مساعدة العديد من إخواننا العاملين في الوزارة ومن خارج الوزارة أن نحقق الكثير من الانجازات”.
وتابع “كانت الانجازات على مستوى الضبط الإداري والنهوض بالواقع الفني، والنهوض بإمكانيات الوزارة سواء على مستوى الإنشاءات أو التجهيزات كذلك العمل على تطوير عمل كوادر الوزارة بما يحقق مستقبل آمن”.
وحول أبرز تلك المعيقات، قال “واجهنا الكثير من المشاكل لها علاقة مثلا بثقافة الفوضى وعدم الانضباط الإداري، والتسيب والتغيب والتأخر عن العمل وهذا يتطلب منا جهد كبير لإعادة الاعتبار للعمل الصحي وللوظيفة العمومية، وللانتماء للمكان في وزارة الصحة”.
وأضاف “يعلم الجميع أن هذا التوجه لقي مقاومة من داخل الوزارة ومن خارجها، وتكدا تكون هذه المقاومة عنيفة ومسلحة في كثير من الأحيان، من قبل الأجهزة الأمنية ولكن بفضل الله استطعنا تجاوز تلك العقبات وان نضع الوزارة على سكة الانضباط”.
وتابع “واجهنا الكثير من المحطات الصعبة على هذه الطريق أبرزها الإضرابات والاستنكاف عن العمل في يوم واحد بتاريخ 28/9/2008 حيث استنكف 4500 موظفًا جلسوا في بيوتهم وتركوا العمل تماما من أطباء وتمريض وفنيين وإداريين، وهي كانت محطة صعبة وتحدٍ كبير لكننا بفضل الله تجاوزناه”.
واستطرد “لم تتوقف أي مستشفى عن العمل أو أي مركز رعاية أولية العمل كان طبيعي، واستمر ذلك الوضع لعدة شهور ثم تجاوزنا هذه الأزمة بالكامل، وكانت تواجهنا ثقافة التسيب الإداري الذي تطلب منا الكثير من اللوائح والإجراءات والقوانين لمحاسبة المخالفين، ونتحدث اليوم عن تقدم واضح في ضبط الوزارة بالمعنى الإداري والفني”.
التحدي الأصعب
وعن تحدي الصعب، قال “منذ العمل بالوزارة واجهنا مشكلة كبيرة جدا عنوانها هو الاحتلال وبالتالي الحصار الذي مس الكثير من القطاعات الفلسطينية لكن أكثر هذه القطاعات هو القطاع الصحي، وذلك لأنه يمس حياة المواطن، فنحن محاصرين سياسيا وماليا ووظيفيا”.
وأضاف “كانت هناك صعوبة لتوفير احتياجات الوزارة من داخل الوزارة أو من خارج البلد تطلب منا الأمر لوضع خطة لما هو متاح من إمكانيات بشرية أو مادية، حتى اللحظة ما يقرب على ست سنوات من الحصار تمكنا تجاوز العديد من المحطات الصعبة، لكن لازلنا نعاني في كثير من الجوانب اليوم نتحدث عن نقص شديد في الأدوية والمستهلكات الطبية وقطع الغيار والوقود”.
وتابع “إضافة إلى ذلك صعوبة تحرك الكوادر من والى القطع، على الطريق كانت إبداعات من الكادر الصحي سواء بترشيد النفقات والحفاظ على المال العام وتوفير بدائل محلية من أجل تجاوز النقص في الكادر البشري في مجال تطوير الكادر كانت هناك إبداعات في تفعيل برنامج البورد الفلسطيني، والتعليم عن بعد إضافة إلى استقطاب الكفاءات من الخارج”.
واستطرد “علاقتنا مع المؤسسات المحلية والخارجية كانت معدومة بفعل الحصار، فعمدنا إلى إقامة علاقات مع مؤسسات لم تكن تتعامل مع وزارة الصحة من أجل تجاوز عقبة الحصار فبعد أن قاطعتنا الكثير من المؤسسات الداعمة للقطاع الصحي تمكنا بتطوير علاقات مع مؤسسات عربية وإسلامية والدولية الصديقة للشعب الفلسطيني”.
حرب غزة .. تجربة صنعت الانجاز
وعن تجربة الحرب، قال “قبيل الحرب كنا نتوقع هجوم كبير على القطاع لم نكن نتوقع أن يكون بهذه الشراسة والدموية، ولكن كانت هناك بدايات للاستعداد للهجوم، والواقع كان مريرًا حيث سبق بداية الحرب بفعل حصار بلغ ثلاث سنوات، والوزارة دخلت الحرب وهي أصلا منهكة ومستنزفة”.
وأضاف “استطاع القطاع الصحي الرسمي والأهلي بتكاتف الجميع وبمساعدة الأصدقاء والجيران تمكنا من تأدية عمل صحي مميز شهد له كل من زار قطاع غزة، فعلى مدار 22 يومًا لم ينم العاملين في القطاع الصحي، ولم يقصروا في تقديم الخدمة رغم المخاطر الكبيرة التي كانت تحيط بهم”.
وتابع “تنقل العاملين كان صعب ونقل المساعدات كان يلفه خطر كبير جدا من الاستهداف والقصف، ونحن في الحقيقة في هذه اللحظة نترحم على جميع شهداء العمل الصحي حوالي 17 أخًا وأخت من العاملين في القطاع الصحي استشهدوا في هذه الحرب، وعشرات السيارات تم تدميرها العديد من المؤسسات الصحية تم تدميرها كليا أو جزئيا”.
ومضى يقول “القطاع الصحي دفع ثمنا غاليا في مقابل استمرار الخدمة الصحية، وعانينا كثيرا في توفير الاحتياجات، حيث إن 150 صنفًا من الأدوية و200 صنفًا من المستهلكات الطبية بلغ رصيدها الصفر لكن من خلال بعض نداءات الاستغاثة تمكنا أن نسد هذه الثغرة ومعالجة الخلل من بعض التبرعات التي وصلت”.
وأكمل “إضافة إلى ذلك نقص الكادر البشري المختص في كثير من الحالات الحرجة التي لازمتنا خلال الحرب، استقبلنا العديد من الأطباء الزوار من العديد من الدول العربية والإسلامية والدول الصديقة لتغطية الكثير من الاحتياجات، وتلك الوفود كان لها أثر طيب وكبير وواضح في دعم القطاع الصحي لمواجهة هذه الحرب والتمكن من الاستمرار”.
وأضاف “الاحتلال هدد بشكل مباشر كافة القطاعات وخاصة القطاع الصحي، وتم تدمير بعض مراكز الرعاية الأولية في محافظات الشمال، وتدمير وحرق بعض المستشفيات مثل مستشفى القدس ومستشفى الشهيد محمد الدرة والوفاء، ثم استهداف مسجد مجمع الشفاء الطبي، ما أدى إلى تدمير الكثير من أبواب وشبابيك المستشفى، والحركة كانت صعبة جدا الكادر مستنفر على مدار 22 يوم لكن بالرغم من كل ذلك استطعنا بفضل الله وكرمه أن نقدم نموذجا صحيا مميزا ورائع في ظل هذا الظرف الطارئ”.
ثورة عمرانية
من ناحية أخرى، قال نعيم “كان واضح أمامنا أن حجم المنشآت القائمة منذ عشرات السنين لا تستطيع أن تفي بالغرض المطلوب في تقديم خدمة مميزة للمواطن الفلسطيني، الذي هو يستحق هذه الخدمة المميزة، أولا لتطوير الخدمات وزيادة عدد السكان، وهناك خطر دائم لتقطيع أوصال القطاع لذا كان لزاما علينا العمل على تطوير المنشآت وزيادة التجهيزات”.
وأضاف “في فترة استلامنا لهذه الحكومة قمنا بافتتاح 3 مستشفيات جديدة مستشفى د. عبد العزيز الرنتيسي للأطفال، ومستشفى بيت حانون، ومستشفى الهلال الأحمر الإماراتي للنساء والولادة، كذلك افتتاح أقسام كاملة جديدة مثل جراحة القلب المفتوح الأعصاب، ومركز العلمي للحروق وغيرها التي أضافت إضافات نوعية”.
وتابع “تم إمداد الوزارة بالعديد من الأجهزة الجديدة والمركزية مثل ct و emir وجهاز تفتيت الحصى وأجهزة الأشعة وتزويد المختبرات بالعشرات من الأجهزة الحديثة التي حسنت الخدمة وعوضت المستهلك من القديم إضافة لذلك في العام والنصف الأخير بعد إدخال كميات كبيرة من مواد البناء من خلال الأنفاق وتوفير المال اللازم تم وضع تصور للاحتياجات القطاع الصحي خلال 20 سنة القادمة”.
ومضي يقول ” بدأنا العمل في هذه الخطة بالتعاون مع العديد من المؤسسات وفي هذا الوقت يتم تنفيذ مشاريع بقيمة 38 مليون دولار من البنك الإسلامي للتنمية بالإضافة إلى أموال جاءت من مؤسسات أخرى مؤسسات ومشاريع جديدة منها مبنى الياسين الطبي في مستشفى ناصر ومبنى الجراحات التخصصية في الشفاء وقسم الأعصاب في الأوروبي”.
وتابع “جلسنا مع كل المعنيين بالقطاع الصحي الأهلي والرسمي حاولنا أن نستفيد من تجربة الحرب وان نضع خطة للطوارئ بناءً على هذه التجربة، وكيف يمكن التعامل مع أي طارئ خاصة أن العدوان متوقع مرة أخرى من الاحتلال”.
واستطرد “تم تأهيل كافة أقسام الاستقبال بما يتناسب مع حجم الحدث، إضافة إلى عدد كبير من غرف العمليات والعناية المركزة وكذلك تطوير الكادر البشري في تخصصات معينة، ثم إعادة تأهيل كافة أقسام الطوارئ سواء على المستوى الكمي أو النوعي، واليوم نحن نحيا ثورة عمرانية داخل مؤسسات وزارة الصحة سواء المستشفيات أو مراكز الرعاية الأولية”.
ثورة التعليم الصحي
وحول ثورة الصحي، قال “عندما استلمنا الوزارة كانت من أهم التحديات التي واجهناها مستوى الكادر الصحي في تراجع مستمر ولا يوجد تعويض لان عدد العاملين في القطاع الصحي والذين يحملون شهادات لا يرغبون في العودة بسبب الظروف الصحبة التي تعيشها فلسطين”.
وتابع “وضعنا هدف استراتيجي وهو كيف نطور الكادر البشري في الوزارة وفي القطاع الصحي بشكل عام، ولتحقيق هذا الهدف شكلنا اللجنة الوطنية العليا للتعليم الصحي، وبدأنا في تفعيل العديد من البرامج التي تهدف للارتقاء بالكادر الصحي داخل الوزارة وخارجها”.
ومضي يقول “نفذنا برنامج البورد الفلسطيني والذي خرج 198 طبيبا في تخصصات مهمة وأساسية، برامج التعليم عن بعد وذلك لتجاوز الحصار وعدم قدرة الكوادر في الخارج من الوصول لقطاع غزة، ونظمنا برنامج التعليم عن بعد بالتعاون مع إخواننا في اتحاد أطباء العرب عبر الفيديوكونفرنس”.
وتابع “هناك عدد كبير من الدبلومات والماجستيرات مابين الوزارة وعدد من الجامعات الأهلية أو مابين الوزارة ومؤسسات دولية مثل معهد معتمد في اتحاد أطباء العرب، وهناك أيضا برامج مع الأخوة في الجامعة الأردنية ولجنة دعم القطاع الصحي في غزة بالأردن”.
وأضاف “قمنا بابتعاث للخارج لعدد كبير من الأطباء والفنيين اليوم عندنا 112 مبتعثًا 72 منهم للحصول على شهادة الدكتوراه أو البورد في التخصصات الطبية المختلفة، والبقية ماجستيرات هناك عدد كبير ممن أرسلوا في دورات قصيرة 3-6 شهور لتعزيز خدمة صحية معينة”.
واستطرد “استطعنا بفضل الله استقطاب عدد من الكفاءات من الخارج للعودة إلى غزة أو العمل لفترات طويلة، ونتوقع من خلال التنسيق مع الجانب المصري والتحسن الملحوظ الذي طرا على معبر رفح أن نتمكن في القريب أن نستقطب كفاءات من عدد الدول العربية والإسلامية للعيش في غزة”.
اعتقد انه كما قلت هناك ثورة في التعليم الصحي لم نتوقف عند هذا الحد، ذهبنا الى وزارة التربية والتعليم العالي الجامعات الكليات جلسنا معهم في حوار معمق للخروج بالشكل الامثل والعدد الأفضل للخريجين في القطاع الصحي لأن بعض الأمور لا تعالج في الوزارة أن لم تعالج في الجامعات والكليات، استطعنا التوافق مع وزارة التربية والتعليم العالي كذلك مع الكليات والجامعات على تغييرات جوهرية في قبول الطلاب من حيث الكم والنوع وهذا ستظهر آثاره خلال السنوات القادمة، هذا كان أهم ملامح هذه الثورة ثورة التعليم الصحي في الوزارة .
التعاون الدولي
من ناحية أخرى، قال الوزير نعيم “عندما فرض علينا الحصار العام 2006 بعد نتائج الانتخابات وعدم احترام المجتمع الدولي لهذه العملية الديمقراطية والشفافة والنزيهة بدأنا نفكر في كيف نبدع في إيجاد علاقات دولية رغم الحصار المفروض علينا”.
وأضاف “استطعنا إبداء مرونة كبيرة مع كافة المؤسسات خاصة، رغم أن المؤسسات كانت تخشى من الاتصال بنا مباشرة بسبب ما فرض عليها من فرارات جائرة من قبل الرباعية الدولية هذه المرونة أعطت فرصة للكثير من المانحين والراغبين في المساعدة للتواصل مع أطراف الوزارة في المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية مباشرة تحت إشراف الوزارة”.
وتابع “العلاقة بدأت تتطور مع المؤسسات التي بدأت تأتي بالدعم للمستشفيات سواء بالدعم اللوجستي أو إمكانيات أو منشآت أو ترميم أو كادر بشري (..) كنا نتنازل على كثير من حقوقنا البروتوكولية من اجل وصول المساعدة للمواطن، لكن عندما بدأ الجميع يدرك خطأ هذا القرار الجائر بحصار غزة وخاصة القطاع الصحي وعدم جدواه بدأت العلاقة تتطور شيئا فشيئا اليوم لدينا علاقات مع كل المؤسسات العربية والدولية والإسلامية مفتوحة ومؤثره تكاد تكون العلاقات طبيعية، رغم القرار الجائر الذي فقد أثره من ميدان الرباعية الدولية”.